Tuesday, March 28, 2006

جبور الدويهي: شخصيات <<مطر حزيران>> مؤلفة لكن الأحداث حقيقية

عناية جابر
السفير 28-03-2006

منذ <<اعتدال الخريف>> و<<ريا النهر>> و<<عين وردة>> والآن <<مطر حزيران>> عن <<دار النهار>> يستوي الروائي جبور الدويهي في مملكته السردية الخاصة، ناهجاً في صوته الأدبي الى رأب الصدع بين ماضي البلد، وحاضره. وهو بقلمه، يقظته وإحساسه وفرادة بصمته، يهتك غباراً كاد يستعصي، ويفرج عن حيوات وكائنات وأمداء اوشكت الذاكرة ان تطويها. عن كتابه الصادر حديثاً <<مطر حزيران>> والمهدى الى سمير قصير، كان هذا الحوار. 
لماذا <<مطر حزيران>> الآن، بما هي استعادة روائية لحادثة موت ثأري جماعي جرت في خمسينيات القرن، حادثة مزيارة، قضاء زغرتا. هل هو سردك التبشيري السياسي، ام انها المقتلة بحد ذاتها، كانت ذريعة للأدب؟ 
بداية، وراء اختيار هذا الإطار الحدثي للرواية، تقف حادثة عنف مشهودة حدثت في خمسينيات القرن الماضي، وما تلاها في ما بعد من أحداث وقعت سنة 1958. الحادثة ليست ذريعة للأدب فقط، بل هي ما حثني بعض الاصدقاء على كتابته، وأولهم سمير قصير، انطلاقا من ان حادثة من هذا النوع قد جرت، لا يجدر بي ككاتب ان أسقطها في النسيان، من دون ان استوحي منها عملاً روائياً ما. كتابي إذاً، اهديته لسمير قصير لانه كان هو نفسه وراء الفكرة. 
الذي ينظر من الخارج الى هذه الحادثة، البعيد عنها اعني، قد يعتقد ان حادثة الموت او الثأر هو الجانب الروائي منها، وهذا بالضبط ما حاولت تفاديه. تفاديت بشدة التركيز على التابوهات او المحرمات الدينية. فكرتي، إذا كان من فكرة وراء هذه الرواية هو التماثل الحاصل بين ما عايشناه من احداث في صغرنا، وبين انطلاقة الحرب اللبنانية سنة 1975. لقد عايشنا في صغرنا، وفي الطفولة تنطبع الاحداث انطباعا غريباً، احداث سنة ال58، ثم بدأنا نشهد في ال75 ما يعادل تلك الاحداث، او لنقل كأنها عرض اول لمشهد النزاع الاهلي الذي عانيناه في عمر السابعة وعمر الطفولة (خطوط التماس، التطهير العرقي، الثأر على الهوية، الأفكار السلبية الجاهزة عن الآخر) وسوى ذلك، وهي تشبه جميعها حالنا مع الطوائف اللبنانية كافة. كل هذه الامور لا تحضر في الذهن ولا في الإحساس لدى الكتابة عند الكاتب. ما يحضر فعلاً اشياء اخرى، وتفاصيل اكثر حسية هي التي تملي على الكاتب كتابته في شكلها الاخير، وحرية الكاتب في اختيار اسلوبه انطلاقا من بهجته الخاصة إزاء رسم هذه الشخصية او تلك. 
تنوع صوتي 
هل هي لغتك نفسها، التي تنسحب على <<اعتدال الخريف>> و<<ريا النهر>> <<وعين وردة>> والآن <<مطر حزيران>> أم تتلبس لغتك الاحداث واختلاف الروايات. بمعنى اوضح، هل تفتعل لغة لكل رواية؟ 
هذه الرواية تحديداً، حملت تعدد أصواتها، وهي على تشابك شخصياتها بدا التنوع الصوتي فيها متعدداً، فلكل صوته الخاص سواء الرجل او المرأة او الطفل او العجوز، كشهود على احداثهم اليومية، ومن مواقعهم المختلفة. هذه الاصوات مجتمعة، يضاف إليها اسلوب الراوي الخارجي او البعيد عن الاحداث. وهو هنا يتدخل بوصفه صوتا أدبياً او تأريخياً او سوسيولوجياً. تعدد الاصوات والشخصيات في <<مطر حزيران>> دفعني الى ابتكار لغات عدة وأساليب عدة لتأتي مطابقة للشخصيات التي استنطقها عمّا عاشته وعما خبرته وشعرت به. رواية الصوت الواحد، او مونولوغ الكاتب، تأتي اكثر سهولة، وتتدفق بتلقائية وتتخلق استمراريتها من داخلها ومن دون تدخل اي صوت عداها. 
في <<مطر حزيران>> لكل فصل صوته الخاص. وما أجده طاغياً فيها هو صوت الطفل إبن السابعة، اي صوتي أنا الخاص كشاهد على الاحداث من وجهة نظري كطفل. صوت ابن السابعة هو صوت الرواية. وبوصفي كنت طفلاً، فلا ازعم انني رأيت كل شيء، او ادركت كل شيء. لذلك عمدت في روايتي الى استنطاق اصوات اكثر ادراكاً من صوتي الطفل، لكي تطل على الرواية من نوافذ اخرى. 
مع ذلك، وعودة الى سؤالك عن لغتي في هذه الرواية وتلك، وعمّا إذا كانت نفسها او تتغير، فأقول ان ثمة هذا الشعور الذي يلازم الكاتب، في انه في اية رواية، هو نفسه الذي يكتب، وان اسلوبه يلح عليه دائما، وانه مطارد من أسلوبه باستمرار. ثم ان تنوع الاصوات مهما بلغ، وكيفما تعدد، فإنه لا يلغي صوت الكاتب. تنوع الاصوات وتعددها يعزز الكتابة، لكنه لا يلغي صوت الكاتب وأسلوبه الحاضر دائما مهما اختلفت الروايات. 
ما الذي تمنحه لك أدبياً، جذورك الريفية. هل من علاقة بين الجغرافيا (المكان) والإبداع؟ 
اعتقد ان كتابة الرواية لا تأتي مستقلة عن المكان ولا عن صيرورة المكان. اعتقد ان الرواية اللبنانية، او كتابة الرواية بلبنان هي نقطة قطيعة بين ريف ما يزال حاضراً، ومدينة تلوح في الأفق من دون ان تتحقق. الريف هو هذه الخاصية بالضبط. وهي عندنا جزء من الريف ومن المدينة التي تلوح دائما. الكتابة الروائية اللبنانية تأتي إذاً من نوع كتابتين في وقت واحد. أنا شخصياً واجهت مثل هذه المشكلة في هذه الرواية <<مطر حزيران>> بالذات. ولقد وجدت نفسي إزاء توجهين: كتابة موضوع ثأري ينتمي الى ما قبل الحداثة كما كان كتبه الكثيرون، او كتابته كموضوع روائي بالرغم من ان متنه هو حادثة الثأر المعروفة، ولقد اخترت كتابته كروائي راهن وحداثي مستفيداً بمشكل فني من الحادثة بجعلها ذريعة جيدة للأدب. 
الرواية والمجتمع 
ثمة العلاقة الدائمة بالتاريخ في رواياتك، تتراوح في هذه وتلك، وثمة اهتمامك بتركيبة المجتمع اللبناني وتحولاته التاريخية ومنعطفاته، هل توافق؟ 
هذه العلاقة عائدة الى ثنائية الريف والمدينة وتشابكهما، وإلى تحولات المجتمع التي تعنيني، وإلى انماط الحياة والاجتماع والعلاقات الفردية والصداقات والزواج. الامور المتغيرة التي تطرأ بفعل الزمن والاحداث على الاشياء التي ذكرت، هي التي تستدعي كتابتي الروائية، وهي التي تشكل إطارها. 
الاشارة التاريخية او الخلفية التاريخية (حادثة الثأر في زغرتا مزيارة) في هذه الرواية تحديداً، هي الابرز والاقوى من كل الاشارات في الروايات السابقة. الخلفية هذه، طرحت عليّ مشاكل في التأقلم بين العمل الأدبي والتاريخ، من كون الصحف التي كتبت عن تلك الحادثة والمرحلة في تاريخ لبنان، ما زالت موجودة، كما ان الشهود العيان ما زالوا موجودين او قسم منهم ما زال، على قيد الحياة. 
لقد سعيت في <<مطر حزيران>> الى لملمة تفاصيل وعناصر كافية لكي تحفزني على الكتابة وتوقظ فيّ الحس بالرغبة بكتابتها، من دون العودة الى الوقائع الحقيقية. <<مطر حزيران>> هي لنقل رواية الاشخاص المتخيلين، او المصنعين من عدة نماذج وموديلات. مهمتي ككاتب، كانت ان اجمع وأوحد الاشياء من دون ان اخترع احداث. الشخصيات مؤلفة غير ان الاحداث حقيقية. 
هناك عملية استقراء شديدة الدقة، والرهافة لشخصيات الرواية، الرجال والنساء، الشيوخ والاطفال. الى اي مدى تستمتع ككاتب في سردك الممعن وصفاً بدواخل الشخصيات وخارجها، وإلى اي مدى يفيد هذا الوصف المتأني، الرواية ككل. 
استرسالي بالسرد يحدده مزاجي الكتابي، وحجم الوصف قياساً بهذا السرد يحدده ايضا طبعي الروائي، مع الاعتراف طبعا بأن التوازن العام في النهاية، يفرض نفسه عليّ لكي يأتي السرد متناسقاً استرسل على قدر إحساسي بالاشياء، وهي لذة السرد نفسها التي تفرض مساحتها ووقتها. هناك احداث تستدعيني وأعجز عن تلبية رغبتي الى صدّها. من هنا استمتاعي بالوصف والدخول منه الى اعماق الشخصيات. 
لا ادري تماما، وأنت محقة في هذا، منشأ استرسالي في الوصف، ولا اعتقد ان معرفتي بناس كثيرين هي السبب، او مراقبتي الدقيقة لهم او ملاحظتي اليقظة. <<الموضوع اكثر من هيك بكتير>> ولا ادري فعلا منشأه. يبقى انني احترم ككاتب، شخصياتي الروائية، واحترم خصوصياتهم سواء في السلوب او المفردات، واشتغل على وصفها بشكل يبدو استغراقاً احيانا، فهذا يتيح لي تسديدها حقها عبر تظهيرها بكافة تفاصيلها، سواء الشكلية منها، اي المتعلقة بالمظهر الخارجي، او دواخل الشخصية فأغوص في مزاياها حتى اكثر الملامح، فهذا يقربها من القارئ، ويجعله على تماس مع ما يصدر عنها من أفعال وأقوال.

No comments: