Monday, May 1, 2006

«مطر حزيران» رواية بين الواقع والتخييل
مصباح الصمد الحياة - 01/05/06

لا بد لعنصر المطر من ان يستوقف قارئ رواية «مطر حزيران» (دار النهار 2006) للكاتب اللبناني جبور الدويهي ، خصوصاً انه يتصدر عنوانها ويظهر على غلافها الأخير كواحد من العوامل الأساسية التي تشكل الإطار الزماني - المكاني لمقتلة ذهب ضحيتها «مئة وبعض المئة من الناس» بين قتيل وجريح في إطلاق نار عشوائي لم يدم أكثر من عشرين دقيقة.

يتهيأ الناقد بالتالي لاستحضار ادوات باشلار التحليلية الخاصة. بعنصر الماء ورمزيته التكوينية او الطهورية أو الطوفانية او الوجدانية، أو بأبعاده النفسية من خلال عقدة نرجس او أوفيليا وغيرهما، ولكنه لا يكاد يبدأ قراءة الرواية حتى يشعر انه سيحتاج ادوات مختلفة تنتمي غالبيتها الى ميدان التقنيات الروائية.
لا يعني ذلك ان الماء ستكون غائبة عن الرواية او قليلة الوجود فيها، بل على العكس. فمنذ السطور الأولى نحس بـ «رائحة النهر القريب»، ومنذ الصفحات الأولى تنعطف «عند خزان المياه» حافلة تقل «أولاد برقا» لتعيدهم صبيحة اول ايام الأسبوع الى بلدتهم غير البعيدة عن «شاطئ البحر» و «المحشورة بين النهرين»، تلك الحافلة التي يقودها موريس وهو «يبكي مستسلماً، لا يمسح دموعه بل يتركها تسيل على خديه وتسقط قطرات منها فوق مقود البوسطة»، والتي ينزل منها التلاميذ على تخوم بلدتهم قرب جنود ينظرون «الى الماء الموحل كيف تأخر ذوبان الثلوج العام الماضي وكيف طاف النهر وأخذ جسر الحجر وركّبوا جسراً حديدياً مكانه». الماء موجودة بكثرة إذن، ولكن ليس بغزارة، حتى انها تشكل احياناً، بحضورها او غيابها، عنصر تدليل مأسوي كما في حالة امرأة تنام على الدوام في السرير الذي سجي عليه جثمان اخيها القتيل رافضة ان تغسل الملاءة او الغطاء، أو عنصر إضاءة على الماضي كما في حالة كاملة، إحدى الشخصيات الرئيسية، التي تحررت من الاستحمام المنتظم بعد مقتل زوجها، او تدليلاً على محدودية التفكير لدى رجل لم يستحم منذ عقود ثم يرفض القيام بذلك لمناسبة قدوم اخيه المهاجر بعد يومين متعللاً بعذر منطقي: «وماذا إذا لم يحضر؟».
ولكن مطر حزيران هو عنصر وثيق الارتباط بالمقتلة التي هي موضوع الرواية ومادة وحدتها. لذلك نجد الروائي يعتمده عنواناً ويضعه على الغلاف الأخير في مقدمة المقتطف المأخوذ من «القرار الظني في قضية الاعتداء على أمن الدولة الداخلي»، ثم يوكل الى الراوي ذكره بين الحين والآخر وصولاً الى مناقشة مستفيضة له في عدة صفحات انطلاقاً من مقالة صحافية ومن «القرار الظني»، إذ يقول: «لا يخلو سطر من مقالة ألين لحود من الصنعة الشاعرية ولا تخلو رواية لحادثة برج الهوا من المطر»، قبل ان يضيف: «ان بعض الشهود يؤكدون ان الزخة انهمرت بعد انطلاق الرصاص مباشرة وليس قبله. ولهم في هذا التوقيت تفسير بأن صاحب المطر أراد تفريق المتقاتلين والحد من أذيتهم بعضهم لبعض بينما يكتفي آخرون باستخلاص الحكمة من ان ما انسكب هو من ماء».
لم يعد عنصر الماء في رواية «مطر حزيران» من اختصاص النقاد إذن، بل ها هو ينهمر مطراً أو بَرَداً أو دماً، رحمة أو سخطاً، على صفحات الرواية، وفي ذاكرة الروائي ووجدان راويه، أو رواته، وشخوص روايته... ولكن ايضاً في يوميات وأدبيات وسلوكيات مجتمع، أيضاً في إدراك القارئ وعلى يديه.
يستحضر المؤلف إشكالية هذا المطر الحزيراني النادر ولكن غير المستغرب ويضعه بين يدي قرائه محاطاً بتساؤلات عن تدخل آلهة الميثولوجيا اليونانية أو سخط السماء او انهمار رحمة الله، ثم عن نظرة الناس المتفاوتة الى ذلك. ولكنه يجرؤ دون شك على ابتكار تقنية تفصح عن المكان الحقيقي الذي يشكل مرتكزاً للمكان الروائي الذي يُفترض به ان يكون «وهمياً» أو متخيّلاً مع إيلاء القارئ بمهمة المقارنة أو المقاربة او المطابقة أو التماهي بين المكانين. يجرؤ جبور الدويهي على دعوتنا الى اعتبار «برج الهوا» صورة عن «مزيارة» وما حدث فيها بتاريخ 16 حزيران 1957. هكذا يصبح من السهل على الكثير من الشماليين واللبنانيين تأويل اسماء مثل عائلات «السمعاني» أو «الرامي» أو «الكفوري» واستبدالها بعائلات زغرتاوية معروفة. ومن يعرف جبور الدويهي يعلم انه امضى سنوات في إنجاز روايته، مما يعني انه ما من شيء قد وُضع فيها بصورة اعتباطية أو مجانية.
نسارع الى القول بأن هذه النقطة «المحلية» الإيجابية - سنعود إليها - لا تسيء بشيء الى رواية يستطيع أي قارئ - وناقد - عربي مقاربتها بمتعة ولكن ليس بسهولة. فمن خلال حادثة شهيرة في التاريخ الحديث، قرر المؤلف اقتحام مجتمعه - ولكن ليس تعريته او تقديم محضر اتهامي بحقه - أي تقديم قراءة شبه تفصيلية وتمحيصية عنه، دون إشباع فضول القارئ لمعرفة تفاصيل الحدث او تحديد الجناة والضحايا. فالقضية هي المجتمع بعاداته وتقاليده والعقلية السائدة فيه، أي بما يهيئ ويحضّر وينتج أحداثاً كهذه تنشر المأساة والذعر والحقد، وتقدّس ضحاياها وتجهّل جناتها.
لخوض مشروع طموح ومعقد كهذا، يبدو الروائي وكأنه يعلن عن تقنيته الروائية، ليس على لسان الراوي الأساسي، بل الثاني الذي هو ابن احد ضحايا المجزرة والذي يعمل على استجلاء حقيقتها بالطريقة التالية: «سأدون أفكاري هنا، دون ترتيب وربما في ارتباك مقصود. انه النظام الحقيقي الذي سيطبع مشروعي هذا بطابع الفوضى»، ثم ينتهي الى القول في صفحات الرواية الأخيرة: «حصلت على أكثر من سبع روايات متناقضة لكيف بدأت الحادثة، كأن الجميع راحوا فجأة وفي اللحظة نفسها يطلقون النار في جميع الاتجاهات. لكل شخص سألته روايته الخاصة...».
للتوصل الى استكناه حدث بهذا الحجم من المأسوية والتعقيد والغموض في مجتمع تسوده «الفوضى المنظمة» أو نظام الفوضى، يعتمد الروائي تقنية عرض تقسم الرواية الى ثلاثة وعشرين فصلاً يقدم في كل منها إضاءة مختلفة على ظروف وخلفيات وتداعيات «الحادثة». ثم تقنية سرد تعتمد راوياً اساسياً يُفترض ان يكون واحداً من التلاميذ الذين إعادتهم الحافلة الى بيوتهم صبيحة ذلك اليوم من عام 1957 فانطبع الحدث مأساة في حياته وحياة مجتمعه ولغزاً في وجدانه وعاد بعد مرور السنين مستذكراً او ملاحظاً او محللاً او مستقصياً. ولكن هذا الراوي يكتشف سريعاً عدم قدرة الصوت الواحد على الإحاطة بالموضوع فيبدأ بإخلاء مكانه لباحث آخر عن الحقيقة، «ايليا ابن حارتنا»، ثم لكاملة والدة هذا الأخير و «بنت منير السمعاني» و «ابن العاصي»، أو ليستعيد ربط اواصر الرواية بسرده الموشّى بحوارات تسترسل اصوات بعض شخوصها لتقدم مقاطع روائية يكاد بعضها يغطي فصولاً بكاملها، او ليجعل المجتمع بكامله يتحدث عن نفسه مستخدماً الضمير «نحن» في خمسة فصول او يكون مادة الحديث في فصلين يسودهما ضمير «هم». واستكمالاً لتقنيات العرض والسرد نشير الى وجود فصلين يحملان عناوين داخلية تقدم صوراً نموذجية عن عادات وتقاليد المجتمع أو عن اشياء أو حيوانات تمثل محطات او منعطفات في تاريخه المعاصر، مثل «المقاطعة الحياتية»، «إذاعة الشرق الأدنى»، سيارة «الديزوتو»، «الكلب الإفرنجي»، وأخيراً الى فصل يبدو لنا للوهلة الأولى حاملاً عناوين داخلية ولكنها لا تلبث ان تتوضح على انها عبارات مظهّرة توضع كل منها في نهاية اجزاء الفصل لتشكل نوعاً من العناوين المقلوبة التي يقدم مجملها سيرة «مقاتل» نموذجي: «يحارب نظيفاً جالساً، محسن»، «محسن يحارب في النهار»، «يحارب ساكتاً، محسن»، «حربه نظامية، محسن»، «يحارب صابراً، محسن».
بهذه التقنية الروائية المتعددة الأصوات، المتغيرة والمتنوعة ضمن نظام استقراء وتحليل شامل، والتي تتيح للروائي التحرك بحرية ويسر ذهاباً وجيئة عبر الزمن ليقدم صورة عن حياة مجتمع خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تبدو «مطر حزيران» على تواصل مع هذا المجتمع وإصرار على دفعه الى الكلام عن نفسه والبوح عما في خفاياه، جاهدة على ان تنقل إليه عدوى الحرية التي تسودها، أو بالأحرى عدوى التحرر من القوالب الجامدة والأفكار المسبقة والمعارف اليقينية، دون ان تمثل تناقضاً جوهرياً معه.
لذلك هي ايضاً رواية اسلوب ذي نكهة خاصة، أسلوب لا نكاد نميز فيه بين أقوال الراوي وأقوال شخوص الرواية. فلقد اختار الراوي اعتماد اسلوب يقع عند نقطة تماس الفصحى والعامية. مثل بسيط: «أنتم بيت أوادم يا فريد... يقصد والده على الأرجح. والده وأعمامه. رجال تعبوا، امضوا حياتهم ينهضون قبل ضوء النهار وينامون قبل العتمة.
مكاريون كل يوم في طريق. والده باع البغل وعمل في الحجر. مهنة أوادم ايضاً، ومهنة تعب ايضاً». هل نستهجن اسلوباً كهذا؟ كلا بالطبع، خصوصاً عندما نتذكر تعدد اصوات الرواة الذين تُرك كل منهم يتكلم على سجيته وبلغة شبه محكية، فكان لا بد للراوي ان يسير على النهج ذاته ليبقى في المنطقة اللغوية نفسها او في الجغرافيا الكلامية ذاتها. يغتنم هذا الأخير عدداً من المناسبات ليقدم بعض المقاطع بلغة فصحى منمقة وجميلة، وكأننا بالمؤلف يعرض امامنا إمكانية اخرى لكتابة روائية مختلفة يطغى عليها الوجدان والصور الشعرية او البيانية، لكنه ينتقد هذا النوع الكتابي لاقتناعه بأن الكتابة الواقعية هي الأنسب لرواية الواقع.
وهي انطلاقاً من ذلك رواية «مصطلح»، اذ يبدو الراوي عميق الإلمام واسع المعرفة بمصطلحات الشؤون اليومية والحياتية لمجتمعه وحتى بمصطلحات المهن شبه البدائية السائدة فيه والتي كاد العديد منها يغيب عن ذاكرتنا مع اننا لم نكد نقطع العهد به في خضم بعض التقنيات التي تغزو مجتمعنا والتي لم تغب بدورها عن الرواية، وصولاً الى أكثرها رمزية، موقع «غوغل» على شبكة الإنترنت، ولكن اكثر ما يلفت الأنظار في هذا الخصوص هي التعريفات الطريفة والمعمقة والبالغة الدلالة على عقلية المجتمع ومفاهيمه والتي يتجاوز بعضها المقطع ليغطي صفحة او صفحات احياناً، ونذكر منها تعريف «الغريب» و «المسدس» و «الحادثة» وتحديد نوعية اصوات الرصاص و «الرجل والرجّال والرجالات والمرجلة والرجولة».
وهي ايضاً رواية علاقة جدلية وثيقة بين المكان والزمان والأشخاص ومصائرهم انها تشكو احياناً من الجمود المطبق على هذه العناصر - «كأن الأمور تتراكم هنا في الزمان وليس في المكان، فالمكان كما هو منذ الأزل، لا يحمل اثراً كمرور السنين» - ولكنها تستثمر باتقان تلك العلاقة، إذ تكفي لمحة زمانية سريعة للدلالة على مكان او حدث او على سن شخص، او إشارة الى مكان للدلالة عمن يقيم فيه، ألخ. قد تدفع تقنية الإضاءات المتبادلة هذه بالقارئ الى التوقف حيناً والتساؤل حيناً آخر، ولكنها تكسبه في مطلق الأحوال لذة الشعور بالمشاركة والاستكشاف.
ولكنها خلال ذلك كله رواية مأساة. مأساة تلقي بأوزارها على الرواية كما على المجتمع، على الرواة والشخصيات الأخرى ومختلف بقاع المكان وعائلاته و «بيوته» وعلى الرواية التي تكاد تخلو من الحب، ومن المحبة ايضاً، لتركز على الشحن «السياسي» والاجتماعي والعائلي والنفساني على الذات ليملأها توجساً وريبة من الآخر وليزين لها اوهام الانقضاض عليه. وعندما يحصل ذلك نتيجة «ضوضاء» أو «تدافع»، أو لمجرد تحديق شخص من الطرفين في عيني الآخر، تقع الواقعة على الجميع فتسقط الضحايا من الطرفين ويعم الحداد وتهجّر عائلات وتعاد نسوة الى اهلهن في «الطرف الآخر». ولكن الواقعة الحقيقية بكل أبعادها المأسوية تقع على كاهل أرامل وأبناء الضحايا، وهذا ما تمثله كاملة وابنها ايليا اللذان تتمحور الى حد بعيد حبكة الرواية عليهما فتنتهي بانطفائهما واحداً تلو الآخر بعد ان تلوك ألسن أقرب الناس سمعة الأم التي أنجبت بعد وفاة زوجها، بينما تضيق الدنيا بـ «ابن كاملة» الذي يتفكك من الداخل وتتمكن منه فكرة انه «إنجاز لم يكتمل» وأنه فاقد لكل «هامش من الحرية» حتى في نيويورك التي يعود إليها بعد فشل استقصاءاته الخائنة: «وسرعان ما فقد الحاجة الى التنفس، نسي جسمه وانطلق في نهر المشاة وسط الرصيف، دون توقف».
ولكن اذا كانت الصورة قاتمة هنا، فهي ليست بهذه السوداوية، ولا مكان لليأس فيها. صحيح ان جبور الدويهي قدم لنا رواية «ملتزمة» تتجنب المجانية وتمارس الدقة والصرامة في تصوير نموذج عن مجتمعات الثأر السائدة في عالمنا العربي، ولكنه نجح في تقديم ذلك ليس فقط عبر غلالة حريرية، بل ايضاً بمزيج واضح من الدعابة والفكاهة اللتين لا تشوبهما سخرية او تجريح، ولا أي ميل تعليمي او تعنيفي. هذا من حيث الشكل، أما فيما يخص مجتمعاً بعينه، فالمؤلف لا ينفك عن تبيان روابط هذا المجتمع - مهما بدا غارقاً في حيثيات «أساطيره» وقيمه المحلية - بما يجري في لبنان والمنطقة والعالم، وبامتداداته الاغترابية في اربع أقطار الأرض. أضف الى ذلك انه ما من شخصية هنا تبدو شريرة بالتكوين او الفطرة، حتى انك قد تشفق احياناً على من تعتقد انه قاتل بقدر لوعتك على الضحية. ثم ان هنالك الكثير من المحبة والمودة والصداقة، وحتى الحب، يمارس تحت جنح الظلام بين اشخاص من «الفريقين». كما ان المرأة تلعب في هذه الرواية دوراً متميزاً، فكثير من رواتها هن نساء يعبرن عن الإشكالية الكبرى للمرأة في هذا المجتمع، وواحدة منهن تلخصها بالقول: «الرجال يقتلون بعضهم ونحن نبكي»، ولكن القارئ يكتشف ايضاً انهن يقلن ويفعلن احياناً كثيرة ما لا يقوله او يفعله الرجال.
كلمة أخيرة، بل اثنتان. أولاهما ان هذه الرواية جديرة، بما هي عليه وما تطرحه من مواضيع، بالقراءة والنقد والنقاش، وفي ذلك متعة وفائدة: والثانية انها تدعونا، بإهدائها «الى سمير قصير» الى الخروج من القواقع والقوالب الجامدة والأساطير والأوهام الجوفاء، وإلى تحويل ومضات الحب والمحبة والإنسانية الليلية الى فجر تحرر إنساني ساطع.

No comments: