Saturday, July 5, 2008
















الالتباس والفخّ


في نتائج إحدى استقصاءات الرأي (نشرت في يومية "لوريان لوجور" الناطقة بالفرنسية) والتي يقول منظّموها أنها أجريت غداة الحرب الأخيرة مباشرة وطالت عيّنة من 600 شخص موزعين طائفياً وجغرافياً، يرغب 84 في المئة من الشيعة اللبنانيين في رؤية حزب الله يحتفظ بسلاحه، مقابل 23 في المئة من المسيحيين، ما يؤشّر لميشال عون على حدود الجمع بين حاجة المسيحيين الى زعيم ولو مضطرب وخوض رهانات ـ و"استراتجيات" مرتجلة ورجيعة من حواضر البيت كتحالف الأقليات المزعوم ـ تتنافى وحاجة المسيحيين الأوّلية الى بلد قائم ومسالم. لكن على السؤال التالي: "هل ترغب في فكّ ارتباط لبنان بالنزاعات الاقليمية؟" يجيب 84 في المئة من الشيعة أيضا بأنهم يؤيدون فك الارتباط هذا، مع نسبة مماثلة لا غرابة فيها من المسيحيين والسنّة والدروز. يأتي الاستنتاج سهلاً ليتقاطع مع ما يقوله بعض الباحثين وما يؤكده السلوك العمراني غير العسكري في الجنوب للسواد الأعظم من ساكنيه، من أن "طبع" الطائفة الشيعية أو مزاج غالبيتها يميل الى الاعتقاد أن سلاح حزب الله يؤمّن، في تصوّرهم لمرتبتهم الداخلية ومنعتهم، حماية يكون دونها سقوط وربما تهميش وقصاص لهم بعد تحالف قياداتهم السياسية الخارجة من الحرب الأهلية ومن تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي مع النظام السوري ومع ايران. هذه "الاستراتجية" الملتبسة التي شكلت وتشكل ثقافة ومراساً مكتملين في علاقة النظام السوري مثلاً بقضية الصراع مع اسرائيل مرّ بها بعض المسلمين السنة في لبنان بداية الحرب 1975 مع دعمهم العمل الفدائي تحقيقاً "لانجازات" داخلية ولاحت امكانيتها (المعكوسة) لبعض المسيحيين مع بشير الجميّل.
لكن الذريعة المعلنة لبقاء سلاح حزب الله في أيدي عناصره كانت تحتاج الى "عدّة" تتجسد في ترسانة من الحجج نجح حزب الله في ترتيبها وإضافة ملحقات لها بالرغم من اقرار الأمم المتحدة بأن اسرائيل انسحبت الى ما وراء الخطّ الأزرق. فبرزت الضرورة الوطنية لتحرير مزارع شبعا وهي كانت الورقة المستورة و"ضربة المعلّم" السورية ـ الايرانية في حشر اللبنانيين بين تهمة التخلّي عن أرض الوطن (وهو تخلٍ لا يجاري فيه النظام السوري أحد في العالم أجمع) والقبول بإسناد المهمة الى حزب الله، وتلتها المطالبة بإطلاق سراح الأسرى وهم بالجمع في الوقت الذي لا يعرف عامة اللبنانيين منهم سوى واحداً، ما ييسّر أمام حزب الله عمليات القصف في مزارع شبعا وخطف الأسرى بغية التبادل في أي مكان آخر.
ومن خشية متكلّمي حزب الله من المعممين الذين لا يتورّعون عن رفع سباباتهم يومياً في وجه اللبنانيين من على شاشات التلفزة أن تنهار هاتين الذريعتين بأن تعمد اسرائيل مثلاً ومن خلال "مؤآمرة" يعدّها فريق 14 آذار مع "اصدقائه" الأميركيين الى سحب جيشها من تلك المزارع وتحرير الأسرى، من خشيتهم تلك راحوا في سكرتهم الكلامية يضيفون "شروطاً" أخرى صاغوها (والصياغة اللفظية جوهرية هنا) بحيث يستحيل تحقيقها في أي أمد منظور، مثل إشارة حسن نصرالله ولو نصف مبتسماً حول القرى السبعة أو ما رموه في النقاش العام وكرره من ورائهم "أتباعاً" نقلوا ولاءهم من رستم غزاله الى من أهداه البندقية الشهيرة، حول ضرورة بقاء هذا السلاح حتى زوال الخطر الصهيوني عن لبنان، ولما لا حتى عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وإلا يكونون على حدّ تصريحات أميل لحود، قائد الجيش اللبناني السابق والرئيس الحالي بالارغام، إذا رموا هذا السلاح يسهّلون توطين الفلسطينيين في لبنان وهذا بالطبع ما لا يرضاه أحد. وفي صياغة مخففة جاراهم فيها حليف غير متوقع يعتقد بدوره أن حزب الله ربما "يهديه" ويهدي المسيحيين شيئاً من انتصاره المتوقّع، تحدثوا عن "استراتيجية دفاعية" تكون خاتمة النقاش فيها بطبيعة الحال أن الجيش اللبناني عاجز عن المواجهة، فيبقى السلاح الى الأبد السعيد في أيدي حزب الله.
هكذا التقت وجهتان تدعمان وجود سلاح هذا الحزب. "الحاجة" الشيعية المتصوّرة له وانخراط هذا السلاح ضمن مواجهة المحور الايراني السوري مع أميركا واسرائيل كما يشاع ويكرر. لكن الذرائع المطروحة لاستمرار هذا السلاح كانت تحتاج دائماً لانعاش وتأكيد كون الهدنة العسكرية الطويلة من شأنها أن تجعل هذه الحجج بالية فكانت الضرورة من قت لآخر لنوع من "التحمية" المتواترة أو ما يسميه حزب الله "العمليات التذكيرية"، فيصار الى خوض مواجهات "محدودة" يحاول حزب الله الاعتقاد من طرف واحد أنها ستبقى محكومة بـ"تفاهم نيسان" الذي تقادم مع زوال الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان وسعى حسن نصرالله للتذكير به دون مجيب في إحدى مداخلاته المتلفزة خلال الحرب الأخيرة. رغم كل هذه "الدقة" المفترضة في افتعال الأحداث وضبط احتمالات تطوّرها والاستفادة السياسية منها كتوظيفها في التوازنات الداخلية اللبنانية التي استعاض فيها الحزب الخميني عن الدعم السوري الداخلي له بـ"تفاهم" انشائي في إحدى كنائس الضاحية الجنوبية من بيروت مع "تيار" جعل من التحريض على المدّ السنّي (آخر تعبيراته "الأخلاقية" المضحكة على لسان قائده أن الشيعة رمز للتضحية والسنّة رمز لجمع المال...) سياسة تعبوية وحيدة له في الوسط المسيحي، نسج حزب الله هذه الشرنقة من الذرائع لينصب بواسطتها فخّاً محكماً لنفسه وللبنان.
حدث ذلك كله دون الأخذ في الاعتبار ما تخطط له اسرائيل فكان خطف الجنديين الاسرائيليين في نظر حسن نصرالله مجرد عملية لتبادل الأسرى يفترض أن يكون الرد عليها محدوداً بعمليات قصف في الجنوب. لكن العدو "الغاشم" تصرّف كما ينتظر من أي عدو وفق منطق آخر فانتهى اللعب على حافة الهاوية بانزلاق الوضع الى ما لا تحمد عقباه وكانت الحرب التدميرية التي قررت خلالها قيادة الأركان الاسرائيلية ـ ولو لم تفصح عن ذلك بطبيعة الحال ـ مواجهة من اسماهم ماو تسي تونغ المقاتلين الشعبيين المتحركين كالسمكة في الماء بين أهلهم وبلداتهم، برمي الماء للتخلص من السمكة. هذا ما يسميه آخرون بسياسة "الأرض المحروقة". كل ذلك في توقيت لا يبدو أنه كان مناسباً لأيران بل مناسباً دائماً لسورية الخارجة خائبة من لبنان. فدارت الآلة التدميرة الاسرائيلية بوتيرة لا يمكن للبنان ولا جمهور حزب الله تحمّلها بالرغم من صمود مقاتليه في بعض المواقع وحسن استخدامهم سلاحاً مضاداً للدروع وقدرة هذ الحزب على الاستمرار في قصف شمال اسرائيل. فسمّي هذا الصمود النسبي "انتصاراً" كشعار ضروري لانقاذ معنويات يصعب رفعها بالرغم من السرعة في التعويضات المالية واضطر حسن نصرالله الى كشف سؤ تقدير قيادته بالقول أنه ما كان ليقدم على عملية الخطف لو عرف بنتائجها. فبات هذا "الانتصار" الغريب كما يقول محررالواشنطن بوست، تشارلز كروتهامر، موضع ندم من قبل من حققه...
تبقى احتمالات المرحلة المقبلة. والمؤكد فيها اضطرار حزب الله للعمل على محو آثار العدوان من خلال الانسحاب الفعلي من المواجهة العسكرية والانكفاء "تحت الأرض" والانصراف الى إعادة ترتيب علاقته بجمهوره الذي عانى الموت والتهجير والدمار. وبالرغم من نقمة متوقعة وتسجيل اعتراض محتمل إلاّ أن التماهي الكبير بين جمهور الشيعة وحزب الله يجعل المهمة سهلة إذا ما استمر الاعتبار أن تهميش الحزب يساوي تهميشاً للطائفة. فالفخّ بهذا المعنى ما يزال منصوباً وسلاح حزب الله الباقي ولو "احترقت" ترسانة ذرائعه في هذه المواجهة المدمّرة مع عدو يملك الجوّ والبحر محاولاً إحكام سيطرته على البرّ سيظلّ حاجة داخلية طالما أن التخلي عنه محكوم بالسؤال: ما ه و الشكل العملي الملموس الذي تعتبر الطائفة الشيعية نفسها في مرتبة تليق بـ"قوتها" ومقاومتها وما بذلته من تضحيات بشرية ومادية في مواجهة اسرائيل؟ أو بمعنى آخر، ما هو ثمن الانخراط في الدولة لا سيما وأن الطوائف اللبنانية حريصة على حصصها وأن الحياة العامة محكومة بثوابت لا يبدو أن تعديلها يرتسم في الأفق المنظور نصّ عليها اتفاق الطائف وأفرزتها الانتخابات الأخيرة بعد الانسحاب السوري؟
يخشى كثيرون ـ ويأمل البعض من أيتام الزمن السوري في لبنان والمنتقلين الجدد من المسيحيين الى محور طهران دمشق حارة حريك ـ في أن "يرتدّ" حزب الله الى الداخل لتصفية حسابات عالقة منذ 14 آذار 2005. وتُقدّم لهذا الحزب اقتراحات مجانية في هذا الصدد كالانسحاب من الحكومة والانقلاب عليها أو تحريك الشارع خلف شعارات ما تزال قيد الاعداد خصوصاً وأن فؤاد السنيورة أستاذ ـ كما هو رفيقه الجديد نبيه برّي ـ في سدّ الثغر "الوطنية" التي يحاول اصحاب هذه الاقتراحات التسلل منها لتخوين الحكومة بأي ثمن. ما خلا احتمال إشهار حزب الله السلاح في وجه خصومه السياسيين وهذا ما يصعب تخيّله الا كانتحار سياسي ناجز، أو إمكانية حركة تصحيحية شبه مستحيلة داخل قيادة الحزب الخميني في لبنان يكون ربما الاعتراف بالخطأ في تقدير المعركة مدخلاً الى نقد ذاتي يصعب تخيّله مع الثقافة التيوقراطية التي ينتمي اليها هذا الحزب، فان مخرج النجاة هو اليوم في رؤية التحاق شرائح متزايدة من الخائبين من سياسات حزب الله بالحركة الاستقلالية التي ولو خيّبت بدورها آمال الكثيرين من الشباب في تحقيقها إصلاحاً نوعياً في الحياة السياسية إلا أنها مثّلت تلاقياً لتيارات سياسية وعصبيات محلية ومذهبية وجماعات من المواطنين (هؤلاء الذين فتحوا أبواب منازلهم، حملوا العلم اللبناني ونزلوا فرادى الى المظاهرات أو قادوا سياراتهم الخاصة من المناطق محمّلين فيها عائلاتهم دون نداء حزبي ليمشوا بجنب صفوف متراصة تهتف بصوت واحد نازلة من الجبل القريب أو ليتلاقوا مع المنتقلين في باصات مرقّمة من الأرياف البعيدة) حول فكرة لبنان المستعادة، حول لبنان بعَجَره وبَجَره كما يقال.


No comments: